مأزق تايوان- صراع القوى وتداعياته على النظام العالمي

يشهد العالم المعاصر جملة من المخاطر الجمة والمتشابكة، وقد قام المنتدى الاقتصادي العالمي، بالتعاون الوثيق مع شركة مارش ماكلينان ومجموعة زيورخ للتأمين، بتحديد هذه المخاطر بدقة متناهية في تقريره الصادر في العاشر من يناير/كانون الثاني 2024. وقد أشار التقرير إلى أربعة مخاطر رئيسية، تحظى بإجماع واسع النطاق من قبل أكثر من ثلثي الخبراء الذين ساهموا في إعداده. وتتمثل هذه المخاطر الجوهرية في التغير المناخي المتسارع، والتغيرات الديمغرافية العميقة، والتقنيات التكنولوجية الناشئة المتطورة باستمرار، فضلاً عن الصراعات والنزاعات الجيوسياسية المعقدة واستغلال التكنولوجيا في تأجيجها وإدارتها.
في هذا المقال، سنركز اهتمامنا بشكل خاص على النوع الرابع من المخاطر المذكورة، وسنتناول قضية تايوان كنموذج حي للتحليل المعمق. تمثل هذه القضية مثالًا صارخًا للنزاعات الجيوسياسية المحتملة، حيث يتجلى بوضوح الترابط الوثيق بين التوترات الجيوسياسية والتكنولوجيا، باعتبارها من أهم المخاطر الأمنية التي تواجه المجتمع الدولي في ظل التنافس الإستراتيجي المحتدم بين الولايات المتحدة والصين.
يرى العديد من الخبراء المتخصصين في مجال العلاقات الدولية أن تايوان اليوم هي البقعة الأكثر حساسية وخطورة على وجه البسيطة، وذلك بالنظر إلى رغبة القيادة الصينية المعلنة والمستمرة في تحقيق "إعادة الوحدة" مع تايوان، حتى وإن استلزم ذلك استخدام القوة العسكرية. هذه الخطوة المحتملة قد تؤدي إلى اندلاع حرب مدمرة بين الصين والولايات المتحدة. وبناءً على هذا الاحتمال المقلق، تبرز عدة تساؤلات ملحة، من بينها: إلى أي مدى تعتبر الصين جادة في تهديداتها بغزو تايوان؟
وما هي التداعيات المحتملة لذلك على معادلة الصراع الإستراتيجي بين القوتين العظميين اللتين تهيمنان على العالم في الوقت الراهن؟ ولماذا تكتسب تايوان هذه الأهمية البالغة، وما الذي يدفع الولايات المتحدة إلى الاهتمام بمصيرها؟ وهل الولايات المتحدة على استعداد للدفاع عن تايوان والحفاظ على التزامها الراسخ بالسلام والاستقرار في المنطقة؟ وما هي العلاقة بين هذه المعركة المحتملة وتحديد موازين القوى العالمية، ومن ثم تحديد هوية القوة المهيمنة على النظام الدولي الذي يُتوقع تبلوره وتشكله في ضوء هذه التطورات المتسارعة؟
الأهمية التنافسية لتايوان
إن الموقع الجيوستراتيجي المتميز لتايوان يضفي بعدًا بالغ الأهمية على هذا المضيق الحيوي، بالإضافة إلى ارتباطها الوثيق ببحر الصين، الأمر الذي لعب دورًا محوريًا في تعزيز قيمتها التنافسية الفريدة. فمضيق تايوان يشكل حلقة وصل حيوية تربط بحر الصين الجنوبي ببحر الصين الشرقي، ويعتبر بحر الصين الجنوبي واحدًا من أكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم، حيث يقدر حجم التجارة البحرية التي تعبره سنويًا بنحو 3.4 تريليونات دولار، ويشمل ذلك إمدادات الطاقة الحيوية لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وهما اليابان وكوريا الجنوبية. ووفقًا لتقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية، يحتوي مضيق بحر الصين الجنوبي على ما يقرب من 11 مليار برميل من النفط المصنف كاحتياطيات "مؤكدة" أو "محتملة".
تتجلى علاقة وثيقة بين السيطرة على تايوان والتحكم في بحر الصين الجنوبي، فالسيطرة على تايوان تمنح الصين مزايا إستراتيجية جمة في إطار سعيها الحثيث لتغيير موازين القوة العالمية والتحول من مجرد دولة كبرى إلى قوة عظمى ذات نفوذ عالمي، وذلك من خلال حصولها على قاعدة عمليات متقدمة لمراقبة حركة الملاحة البحرية والسيطرة عليها، وفرض القوة الجوية والبحرية في عمق بحر الصين الجنوبي، بالإضافة إلى الاستفادة القصوى مما تمتلكه تايوان من قدرات عسكرية نوعية تتلقاها من الولايات المتحدة.
ربما تكون الميزة التنافسية الكبرى التي ستحققها الصين في حال ضمها لتايوان هي إثبات قوتها العسكرية ونفوذها الدولي المتنامي، الأمر الذي قد يفضي إلى تأسيس نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، يحل محل النظام الأحادي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة في الوقت الراهن.
أما بالنسبة لواشنطن، فإن تايوان تمثل أهمية إستراتيجية قصوى من الناحية الأمنية، إذ تتمتع بموقع فريد عند نقطة وصل حاسمة داخل سلسلة الجزر الأولى، مما يساعدها في ترسيخ شبكة واسعة من الحلفاء والشركاء الرئيسيين في منطقة تمتد من الأرخبيل الياباني إلى الفلبين وحتى بحر الصين الجنوبي. هذا الأمر بالغ الأهمية لأمن المنطقة وحاسم للدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كما أنه ضروري لمنع الصين من السيطرة على بحر الصين الجنوبي، ومن ثم إعلان هيمنتها على آسيا كخطوة رئيسية في تنافسها الإستراتيجي مع الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين.
لذا، فإن مصير تايوان سيحدد إلى حد كبير توازن القوى الإقليمي والدولي، ولهذا فإن اهتمام واشنطن بتايوان ينبع من رغبتها في احتواء طموحات بكين ومنعها من إقامة بنية تحتية عسكرية متطورة تشمل أجهزة المراقبة تحت الماء والغواصات ووحدات الدفاع الجوي على الجزيرة، بالشكل الذي يجعلها قادرة على الحد من عمليات الجيش الأميركي في المنطقة، وبالتالي تقويض قدرته على الدفاع عن حلفائه الآسيويين.
النوايا الصينية
لم يعد يخفى على المراقبين سعي الصين الدؤوب لضم تايوان، وذلك للاعتبارات التي تمت الإشارة إليها سابقًا. ومن بين أقوى المؤشرات التي تدل على هذا التوجه، الإعلان الذي صدر في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2022، بأن الرئيس الصيني شي جين بينغ سيتولى فترة ولاية ثالثة غير مسبوقة في قيادة الحزب الشيوعي الصيني. وفي هذا السياق، نشير إلى الخطاب الذي ألقاه أمام المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني، والذي أكد فيه أن "إعادة الوحدة الكاملة لوطننا يجب أن تتحقق، ويمكن تحقيقها بلا شك"، مضيفًا أن جمهورية الصين الشعبية "تحتفظ بخيار اتخاذ جميع التدابير اللازمة".
يبدو من تصريحات الرئيس الصيني العلنية أن الصين تنتظر اللحظة المناسبة لضم تايوان، ويجب أن نقرأ تصريحات شي جين بينغ في سياقين: الأول يرتبط بحرصه الشديد على إنجاز هذه المهمة بكل الوسائل المتاحة خلال فترة ولايته الثالثة، والثاني من خلال العمل على تحقيق ذلك في سياق الرؤية الإستراتيجية للصين 2030. هذا العام تحديدًا يمثل منعطفًا حاسمًا بالنسبة للصين على صعيد التنمية الاقتصادية والتقدم التكنولوجي وبناء القدرات العسكرية، فضلًا عن الالتزامات البيئية، وستكون لهذه التطورات آثار كبيرة ليس فقط على الصين بل وعلى العالم أجمع.
وفي نفس السياق المرتبط بنية الصين ضم تايوان، صرحت مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية أفريل هاينز أثناء إحاطتها للجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ في مايو/أيار 2022، بأن "الصين تراقب عن كثب كيف يستجيب العالم لروسيا وتدرس احتمالية غزو تايوان". وقد عزز هذا المعنى رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في المنتدى الأمني بمدينة شانغريلا بسنغافورة في يونيو/حزيران 2022، حينما قال: "أنا شخصيًا لدي شعور قوي بالإلحاح بأن أوكرانيا اليوم قد تصبح شرق آسيا غدًا".
الإستراتيجية الأميركية
تعتمد الولايات المتحدة على مبدأ تعزيز الردع في مضيق تايوان، وقد أكد إيلي راتنر، مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، للجنة القوات المسلحة بمجلس النواب في 19 سبتمبر/أيلول 2023، أن وزارة الدفاع تعمل بتنسيق وثيق مع وكالات حكومية أخرى وحلفاء وأصدقاء؛ لتعزيز الردع عبر مضيق تايوان؛ بهدف ضمان السلام والازدهار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وترتكز إستراتيجية واشنطن على المبادئ الستة التي تم إقرارها في عام 1982، أثناء المفاوضات بشأن البيان المشترك الثالث بين الولايات المتحدة والصين بشأن مبيعات الأسلحة إلى تايوان، وتشمل هذه المبادئ ما يلي:
- عدم تحديد الولايات المتحدة موعدًا نهائيًا لإنهاء مبيعات الأسلحة إلى تايوان.
- لن تقوم الولايات المتحدة بتغيير شروط قانون العلاقات مع تايوان.
- لن تتشاور الولايات المتحدة مع الصين مسبقًا قبل اتخاذ القرارات بشأن مبيعات الأسلحة الأميركية إلى تايوان.
- لن تتوسط الولايات المتحدة بين تايوان والصين.
- لن تغير الولايات المتحدة موقفها بشأن سيادة تايوان، ذلك أن هذه المسألة يجب أن يقررها الصينيون أنفسهم سلميًا، ولن تضغط على تايوان للدخول في مفاوضات مع الصين.
- لن تعترف الولايات المتحدة رسميًا بالسيادة الصينية على تايوان.
في السادس عشر من مايو/أيار 2016، اتخذ مجلس النواب الأميركي قرارًا متزامنًا، أعطى فيه الصياغة الرسمية الأولى للضمانات الستة، ليترافق ذلك مع تطور تشريعي مهم، جاء ليؤكد الالتزام الأميركي الرسمي بضمان أمن تايوان والتعهد بحمايتها.
في أواخر عام 2022، أقر الكونغرس قانونًا تحت مسمى "تفويض الدفاع الوطني لعام 2023"، الذي وقعه الرئيس الأميركي جو بايدن، وتضمن قسمًا بعنوان "قانون تعزيز مرونة تايوان"، يسمح هذا القسم بمنح قروض بقيمة 2 مليار دولار سنويًا لتايوان لمدة خمس سنوات، ويسمح بإرسال مليار دولار سنويًا للمخزونات العسكرية إلى تايوان في حالة الطوارئ.
التداعيات
يتمثل أحد أبرز التداعيات المحتملة لاحتلال الصين لتايوان في هيمنتها على منطقة آسيا، الأمر الذي يعني سيطرتها على ما يقرب من نصف الاقتصاد العالمي. وبفضل هذه القوة الاقتصادية الهائلة، ستصبح الصين الدولة الأغنى والأكثر أمنًا اقتصاديًا والأكثر نفوذًا على مستوى العالم. ونتيجة لذلك، ستتمكن من تحويل قوتها الاقتصادية المفترضة إلى تعزيز جوانب قوتها في القطاعات الأخرى، وعلى رأسها القطاع الأمني والعسكري.
أما بالنسبة للعالم، فإن الشركات التايوانية تصنع ما يقرب من 70% من الرقائق الإلكترونية في العالم، ونحو 90% من أكثر الرقائق تطورًا. وإذا فقد العالم القدرة الإنتاجية لتايوان، فلن يكون بمقدور أي طرف سد هذه الفجوة في المدى القريب، الأمر الذي ستكون له انعكاسات خطيرة ومدمرة على الاقتصاد العالمي، خاصةً بالنسبة للمنتجات التي تعتمد على التكنولوجيا بشكل كبير، بدءًا من الهواتف الذكية وصولًا إلى أجهزة الكمبيوتر والسيارات والطائرات والكثير من الصناعات الدفاعية والطبية.
يضاف إلى ذلك إمكانية حدوث اضطراب عالمي في سلاسل التوريد، الأمر الذي قد يتسبب في نقص السلع وارتفاع الأسعار عبر مجموعة واسعة من الصناعات. وقد يؤدي هذا إلى توقف الإنتاج وتدهوره، بل وفقدان أعداد كبيرة من الوظائف.
سيناريوهات:
السيناريو الأول: إعادة الوحدة سلميًا في إطار دولة واحدة بنظامين
يعتمد هذا السيناريو على نجاح الصين في إقناع تايوان بقبول إعادة الوحدة بموجب نموذج "دولة واحدة ونظامَين"، على غرار النموذج المطبق في هونغ كونغ وماكاو. وقد يتضمن هذا إجراء مفاوضات مكثفة، وتقديم حوافز اقتصادية مغرية، وضمانات قوية بالحكم الذاتي لتايوان. ومع ذلك، هناك عقبات جمة تجعل من هذا الخيار غير محتمل، بالنظر إلى تصاعد الإحساس بالهوية الوطنية التايوانية، وعدم الثقة في الوعود الصينية بسبب تآكل الحكم الذاتي في هونغ كونغ.
السيناريو الثاني: المحافظة على الوضع الراهن مع الردع والدبلوماسية
يقوم هذا السيناريو على استمرار الوضع الحالي، مع احتفاظ تايوان باستقلالها الفعلي، واستمرار الدعم العسكري الأميركي القوي، مع تصاعد حدة الضغط من الجانب الصيني على تايوان دون اللجوء إلى استخدام القوة، وذلك في إطار تفادي المخاطر المحتملة للصراع مع الولايات المتحدة. هذا السيناريو يعتبر الأكثر ترجيحًا من بين السيناريوهات المطروحة.
السيناريو الثالث: الصراع العسكري مع التدخل الأميركي المحدود
يعتمد هذا السيناريو على قيام الصين بشن عملية عسكرية محدودة ضد تايوان، بهدف الاستيلاء على الجزر النائية أو فرض حصار على الجزيرة الرئيسية، الأمر الذي سيدفع الولايات المتحدة للتدخل عن طريق توجيه ضربات عسكرية محدودة، وتقديم المساعدة العسكرية واللوجستية لتايوان، مع تجنب الدخول في حرب شاملة مع الصين.
السيناريو الرابع: حرب شاملة بين الولايات المتحدة والصين
يقوم هذا السيناريو على قيام الصين بغزو تايوان على نطاق واسع، مما يؤدي إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة. وقد يشمل هذا معارك جوية وبحرية ضخمة، وحربًا إلكترونية مدمرة، وربما حتى استخدام الأسلحة النووية.
الخلاصة
تُمثل تايوان كيانًا سياسيًا مستقلاً يتمتع بمزايا عديدة تجعله مؤهلاً لحسم صراع النفوذ والقوة بين الشرق، بقيادة الصين، والغرب، بقيادة الولايات المتحدة، على المديين المتوسط والبعيد.
وعلى الرغم من المخاطر الكامنة في أي نوع من أنواع المواجهة بين القوتين العظميين، يظل احتمال المواجهة العسكرية الشاملة خيارًا لا مفر منه من منظور المدرسة الواقعية الهجومية في العلاقات الدولية، ولو على المدى الطويل، وذلك بالنظر إلى أن نشوء واضمحلال الإمبراطوريات يظلان محكومين بعوامل القوة، وليس بقوة القانون.
ويبقى الباب مفتوحًا لاختبار صحة ما ذهب إليه إيان إيستون، الأستاذ المشارك في معهد الدراسات البحرية الصينية التابع لكلية الحرب البحرية الأميركية، في كتابه القيم "التهديد بالغزو الصيني" ("The Chinese Invasion Threat")، من أن الصين كانت تستعد بنشاط لمثل هذا الغزو لسنوات عديدة، وأنها الآن قادرة على شن هجوم ناجح.